
قراءات ورؤى في قناديل التحدي (توركمن ايلى أدبياتى)
منور ملا حسسون
كان الزمن قاسيا.. كقسوة القيود على الأقلام العراقية، لكن القلم التركماني نال الحصة الأوفر من تلك القسوة وغزو التعتيم الثقافي. ورغم الهوجائية وثقل مرارة الأيام ، فقد كانت تلك الأقلام ، تسترد عافيتها بين حين وآخر، وتشرئب بنتاجات أدبية وفنية وثقافية، كرد فعل لتكتيم الأفواه .
فلم يخش أدباؤنا وشعراؤنا ، ما كانت تترقبه الأعين المبثوثة هنا وهناك، فرفدوا الساحة الأدبية بكتابات ، تكمن بين أسطرها (اللامباشرة يفهمها القارئ اللبيب المتصف بالوطنية الحقة، وبمقالات كانت تحمل التأهب والمواجهة المصيرية ، ولكن بشيء من الانغلاقية والغموض.
قد يستفز الشاعر الغريب ، بالزمان والمكان ، فتبدأ تداعياته السيكولوجية لتثمر نتاجات مبدعة. فقد اتجهت تداعيات الأديب التركماني د. شمس الدين كوزه (جي) إلى سفر مبدعي وطنه في الأدب والفن والثقافة. وقد ارتأى في بحثه أن ينتقي فترة 1991 2003 في كتابه (توركمن ايلى ادبياتي) أي (الأدب في ربوع التركمان لعرض إبداعات أشقائه، حين كانت الكلمة المجاهدة تختبئ بين أسطر الشعر والقصة والمقالة وفي حوار المسرحيات الجادة وحتى الكوميدية، لتعلن تلك الكلمة عن احتجاجها بصمت ، ذلك الصمت الصاخب المخبوء في براءة الكلام، وفي وجهها الآخر تحمل كل معاني التحدي والقدرة على إدامة روح الصمود بقوة نبل الكلمة وصدقها .
عند الغوص بين أسطر الكتاب ، تيقنت مدى ما استنفذه الباحث من جهد ووقت لعرض كل ما هو مطبوع ومنشور في تلك الفترة من إصدارات باللغتين العربية والتركمانية ، بتواريخها وأسماء مؤلفيها ومقتطفات من قصائد منتقاة إضافة إلى نماذج من القصص المنشورة
قراءات … و رؤى
ومقالات قيمة ، تكشف ما أنجزته أقلام كتابها، رغم الوطأة التي كانت تحاول وضع تلك الأقلام في احتضار دائم..
وأنا أبحر بين أسطر هذا الكتاب ، غمرني إحساس ، حتى خلت بأنني أغوص بين مويجات بحر ( انسكلوبيدي) موسوعي ، ذات أبواب و محاور، ما أن أنتهي من قراءة باب حتى تكون الصفحة التي تليها في ضيافة قراءتي .. وهذا يؤكد مدى الدقة في الاختيار، والرقة في الانسيابية المؤثرة على القارئ.
وقد تناول الكتاب إضافة إلى الشعر والقصة والمقالة بقية فروع الأدب التركماني، من أدب الأطفال والقصة القصيرة والنفيس من كنوز الخوريات) وهي كما يُعرفه الباحث والأديب التركماني المعروف عطا ترزي باشي ” إن الخوريات بمفهومه الأدبي يمثل لونا من الشعر العامي وتستعمل فيه كافة أغراض الشعر وفنونه” *
وقد يُعزز سبب اختيار الكاتب لعرض النتاج التركماني لفترة ما بعد حرب الخليج ، أنه أراد أن يجسد الحضور الأدبي للأدباء التركمان في تلك الفترة ، رغم ما كان يعانيه المثقف التركماني وهو بين المطرقة والسندان ، والأقلام الخيرة تئن من قيودها تارة وتزمجر في عمق السكون تارة أخرى.
الكتاب معرض شامل للأفاق الرحبة التي كانت تتمتع بها الثقافة التركمانية، والتي ساندتها آنذاك) الجبهة التركمانية العراقية، إذ أغنت المكتبات بالصحف والمجلات والكتب القيمة . والكتاب يقدم صورة شاملة لذلك.
ولم يفت على الكاتب ما كانت ترفد به مديرية الثقافة التركمانية في الت بغداد، ساحتنا الأدبية من إصدارات، رغم العصف التعسفي لشل العقول النيرة ودفن الأفكار الحضارية.
لكن الملفت للنظر، أن الكاتب قد سلط الضوء فقط إلى ما كان يصدر في شمال العراق بشكل أوسع ، ولم يتطرق إلى المقالات والقصائد التي كانت تنشر ضمن قنوات الصحافة التركمانية في بغداد ومنها جريدة (يورد) ومجلة (الأخاء) و (الكاتب التركماني) إذ أثبت دباؤنا وشعراؤنا المقدرة الأدبية، وأغنوا الصحافة بكل ماهو وطني وقومي صادق ، عبر كلمات تحمل كل معاني الصرخة والإدانة.
ولم يخف على الكاتب إبراز الجانب الفني من الثقافة التركمانية ، ألا وهو جانب المسرح التركماني الذي بدأ بالانتعاش في التسعينات وبمسرحية (موجالا) للكاتب التركماني الشاعر صلاح نورس) تلك المسرحية التي ، كان للأديب د. شمس الدين كوزه جي شرف المشاركة فيها، ثم توالت مسرحيات ، كانت تخبئ في طيات حوارها، ما كان يعانيه المواطن من كبت وإحساس بالعزلة.
أما الجانب الإعلامي ، فقد كان له نصيب في مجال البحث، إذ أشار الباحث إلى دور الإذاعة التركمانية في تلك الفترة من تاريخ العراق. ولا بد من الإشارة إلى أن المؤلف كان يعمل كمقدم ومخرج للبرنامج الرياضي.
والبحث زاخر بأسماء الاتحادات والمدارس التركمانية ، وإصدارات مديرية الثقافة التركمانية في أربيل ، مع الإشارة إلى جهود الكاتبة (طائفة قصاب) التي لم تبخل بعطاءاتها من أجل رفد الساحة الثقافية بكل ما يعينها على الارتقاء والتقدم الثقافي والفكري .
وفي نهاية الكتاب معرض مصغر وبألوان زاهية، زهتها الكتب المنوعة. وهي نماذج لنتاجات الأدباء والشعراء التركمان ، وباللغتين العربية والتركمانية والتي تم طبعها ونشرها خلال 13 عاما.
فالباحث وهو يستعرض موسوعته هذه ، إنما يقدم نسخ التجربة الصادقة للمثقف التركماني ، الذي كان يعبر ولازال بالكلمة الهادفة عن إيديولوجية أوجاعه وهمومه وتحديه للأزمات .
ومن مؤلفاته التي ترك عليها بصماته الأدبية :
1- الشهيد كمال عمر بك / كركوك 1992
2- قلبان/ اسطنبول 1997
3- ذنبي أنني تركي / أذربيجان 2001
4- التطهير العرقي في كركوك 2004
5- المباراة الشعرية (فضولي) أنقرة 2004
6- خوير اتلاريم / أذربيجان 2004
قد تكون فكرة الباحث في هذا الإصدار ، هو إيقاظ ماكان في سبات الماضي في ظل متغيرات فكرية واجتماعية وسياسية ، ورفد القارئ بعناوين نتاجات أدبية كانت معافى (على الأقل) من الشتم والتشهير والتلفيق . فالأقلام النبيلة تحصنت بنزاهتها وقوتها، رغم التأثيرات الجانبية وعولمة النشر (فقط) . فلن يفتح التاريخ لتلك الأقلام أبوابه إلا على الهاوية.
هي إذن ترجمة حقيقية لأحاسيس أدبية، تكمن في أعماق إنسان غادر بلده وهو يحمل القلم في يمناه وفي الأخرى، حفنة من تراب كركر بابا الأزلية، كي يستمد ثباته من عبقه الأزلي. ومن خلال بحثه هذا ، يجسد انتماءه لأرضه ، بشعرائها وأدبائها وفنانيها ، ذلك الانتماء الذي يتغذى من مشاعر الإحساس بالغربة، فتزداد جمالية ذلك الإحساس ، وتكون في قمة عظمتها ، حين يتنقل في أروقة إبداعات أشقائه ، ليختصر المسافات وليقدم لهم نتاج قلمهم، لتنطلق من زوايا مكتباتهم الصامتة نحو فضاءات جديدة .
وأنا أنتهي من هذه الأسطر حضرني سؤال : إذا كان الأديب الصحفي شمس الدين كوزه (جي) بهذا القدر من الإجادة والبحث الأدبي، إذن .. لم لا يكمل مسيرته للفترة ما بعد 2003 ؟ لاسيما أن لمثقفينا دوراً ريادياً مشهوداً ، إضافة إلى ما يتميزون به من ثقل إبداعي .
– القوريات نشأته وتطوره / مجلة الإخاء / الباحث الأستاذ (عطا) ترزى باشي